منتدى بنات بنوتات

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    البيان وما يعجز عنه الإنسان والحيوان

    avatar
    فريق العمل


    عدد المساهمات : 178
    تاريخ التسجيل : 05/01/2014

    البيان وما يعجز عنه الإنسان والحيوان Empty البيان وما يعجز عنه الإنسان والحيوان

    مُساهمة من طرف فريق العمل الأربعاء 15 يناير 2014, 11:48 am

    بِسم اللَّه الرَّحمن الرحيم
    البيان وما يعجز عنه الإنسان والحيوان

    البيان
    العالَم بما فيه حكمةً، والحِكمَة على ضربَين: شيءٌ جُعِلَ حكمةً وهو لا يَعقِل الحكمةَ ولا عاقبةَ الحِكمة، وشيءٌ جُعِل حكمةً وهو يَعْقِل الحكمة وعاقبةَ الحكمة، فاستوى بذاكَ الشيء العاقلُ وغير العاقل في جهةِ الدَّلالةِ على أَنَّهُ حكمة؛ واختلفا من جهةِ أَنَّ أحدهما دَليلٌ لاَ يَسْتَدِلّ، والآخر دليل يستدل، فكلُّ مُسْتَدِلٍّ دليل وليس كلُّ دليل مستدلاً، فشارك كل حيوانٍ سوى الإنسان، جميعَ الجمادِ في الدَّلالة، وفي عدم الاستدلال، واجْتَمَع للإنسان أَنْ كان دليلاً مستَدِلاًّ، ثُمَّ جُعِل للمستدِلِّ سببٌ يدلُّ به على وجوهِ استدلاله، ووُجوهِ ما نتج له الاستدلال، وسمَّوا ذلك بياناً.
    وسائل البيان
    جُعِل البيانُ على أربعة أقسام: لفظ، وخطّ، وعَقْد، وإشارة، وجُعِل بيانُ الدليل الذي لا يستدِلُّ تَمْكِينَهُ المستدِلَّ من نفسه، واقتيادَه كلَّ من فكَّر فيه إلى معرفةِ ما استُخْزِنَ من البرهان، وَحُشِيَ من الدَّلاَلة، وأُودِع مِن عَجيب الحكمة، فالأجسامُ الخُرْسُ الصامتة، ناطقةٌ مِن جهة الدَّلالة، ومُعْرِبةٌ من جهة صحَّة الشهادة، على أنَّ الذي فيها من التدبير والحِكمة، مخبرٌ لمن استخبَرَه، وناطقٌ لِمَن استنطقه، كما خبَّر الهُزَالُ وكُسُوف اللونِ، عن سُوءِ الحال، وكما ينطق السِّمَنُ وحُسْنُ النَّضْرَة، عن حسن الحال، وقد قال الشاعر وهو نصيب:
    فعاجُوا فأثنَوا بالذي أَنْتَ أَهلُه * ولو سكتوا أثنتْ عليك الحقائب
    وقال آخر:
    مَتى تَكُ في عدوٍّ أو صديقٍ * تُخَبِّرْكَ العيونُ عـن الـقـلـوبِ
    وقد قال العُكْليُّ في صِدق شمِّ الذّئب وفي شدّةِ حسِّه واسترواحه:
    يَستخبِر ُالريحَ إذا لم يَسْـمَعِ * بمثل مقراعِ الصَّفا الموقَّع
    وقال عنترة، هو يصف نَعِيبَ غُراب:
    حَرِقُ الجَنَاحِ كأنَّ لَحْييْ رأسه * جَلَمانِ بالأخبـار هَـشٌّ مُـولَـع
    وقال الفضل بن عيسى بن أبان في قصصه: سَل الأَرْضَ، فقلْ: مَنْ شقَّ أنهارَكِ، وغَرَسَ أشجارَكِ، وجَنَى ثِمارَكِ؛ فإنْ لم تُجبكَ حِواراً، أجابتْكَ اعتباراً.
    فموضوعُ الجسم ونَصْبته، دليلٌ على ما فيه وداعيةٌ إليه، ومنبهة عليه، فالجمادُ الأبكمُ الأخرسُ من هذا الوجه، قد شارَكَ في البيان الإنسانَ الحيَّ الناطق، فمَنْ جَعَل أقسام البيانِ خمسة، فقد ذهَبَ أيضاً مذهباً له جوازٌ في اللّغة، وشاهدٌ في العقل، فهذا أحدُ قِسمَي الحكمة، وأحَدُ مَعْنَيَيْ ما استخرنها الله تعالى من الوديعة.
    ما يعجز عنه الإنسان والحيوان
    والقسمة الأُخرى ما أودَع صدور صنوفِ سائر الحيوان، مِنْ ضُرُوبِ المعارف، وفَطَرها عليه من غريب الهداياتِ، وسخَّر حناجِرَها لَهُ من ضروبِ النَّغَم الموزونة، والأَصواتِ الملحنة، والمخارِجِ الشجِيَّة، والأغاني المطربة؛ فقد يقال إنَّ جميعَ أصواتها معدَّلة، وموزونة موقَّعة، ثمَّ الذي سهَّل لها من الرفق العجيبِ في الصنعة، مما ذلَّله الله تعالى لمناقيرها وأكُفِّها، وكيف فَتَحَ لها من باب المعرفةِ على قدر ما هَيَّأَ لها من الآلة، وكيفَ أَعطَى كثيراً مِنها مِنَ الحسِّ اللطيفِ، والصنْعةِ البديعة، من غير تأديبٍ وتثقيف، ومن غير تقويمٍ وتلقين، ومن غير تدريج وتمرين، فبَلَغَتْ بِعَفوها وبمقدار قوى فِطرتها، من البَديهةِ والارتجال، ومن الابتداءِ والاقتضاب، ما لا يَقْدرُ عليه حُذّاقُ رجالِ الرأي، وفلاسفةُ علماءِ البشر، بِيَدٍ ولا آلة، بل لا يبلغ ذلك من الناسِ أكملُهُمْ خصالا وأَتمُّهُمْ خلالاً، لا مِنْ جهة الاقتضاب والارتجال ولا من جِهة التعسُّف والاقتدار، ولا من جهة التقدُّم فيه، والتأنِّي فيه، والتأتِّي له، والترتيبِ لمقدِّماته، وتمكين الأسباب المُعِينةِ عليه، فصار جهد الإنسان الثاقبِ الحسِّ، الجامِعِ القُوى، المتصرِّفِ في الوجوه، المقدَّم في الأُمور، يَعجِز عن عَفْوِ كَثيرٍ منها، وهو ينظرُ إلى ضروب ما يجيء منها، كما أعطيت العنكبوتُ، وكما أعطِيَت السُّرْفَة، وكما عُلِّم النحْل، بل وعُرِّفَ التُّنَوِّطُ مِن بديعِ المعرفة، ومِن غَرِيبِ الصنعة، في غير ذلك مِن أصناف الخلق، ثم لم يوجب لهم العجز في أَنْفُسِهِمْ في أكثر ذلك، إلاّ بما قوي عليه الهَمَجُ والْخشَاشُ وصِغارُ الحشرات، ثم جعل الإنسان ذا العقلِ والتمكينِ، والاستطاعة والتصريف، وذا التكلُّفِ والتجرِبَة، وذا التأنِّي والمنافَسَة، وصاحبَ الفهْمِ والمسابَقَة، والمتبصِّرَ شأنَ العاقبة، متى أحسَنَ شيئاً كان كلُّ شيءٍ دونَه في الغُمُوض عليه أَسهلَ، وَجَعَل سائِرَ الحيوانِ، وإن كان يحسنُ أحدُها ما لا يحسنُ أحذَقُ الناس متى أحسنَ شيئاً عجيباً، لم يمكنْهُ أن يُحسِن ما هو أقربُ منه في الظنّ، وأسهلُ منه في الرأي، بل لا يحسِنُ ما هو أقرب منه في الحقيقة، فلا الإنسانُ جَعَلَ نفسه كذلك، ولا شيءٌ من الحيوان اختارَ ذلك، فأحسَنَتْ هذه الأجناسُ بلا تعلُّم، ما يمتَنِع على الإنسان وإن تعلَّم، فصار لا يحاوله؛ إذْ كان لاَ يطمع فيه، ولا يحسُدُها؛ إذا لا يؤمِّل اللَّحَاقَ بها، ثمّ جعل تعالى وعزَّ، هاتين الحكمتين بإزاء عُيونِ الناظِرين، وتُجَاهَ أسماعِ المعتَبرِين، ثمَّ حثَّ على التفكير والاعتبار، وعلى الاتّعاظ والازدِجار، وعلى التعرُّفِ والتبَيُّنِ، وعلى التوقُّفِ والتذَكُّر، فَجَعَلَها مذكّرةً منبِّهة، وجَعَلَ الفِطر تُنْشِئ الخَواطرَ، وتجُولُ بأهلها في المذاهب، ذَلِكَ اللّهُ رَبُّ العالَمِينَ. (فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ).
    من كتاب الحيوان ، تأليف : الجاحظ


      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء 19 مارس 2024, 11:22 am